القائمة الرئيسية

الصفحات

حي أرض المنزلي بمعتمدية المرناقية: صرخة في الظلام والعطش


تتجسد قصة حي أرض المنزلي بالمرناقية في ولاية منوبة كصورة حية للمناطق التي تعيش على هامش التنمية، على بعد كيلومترات قليلة من العاصمة التونسية. فبينما تتسارع وتيرة الحياة في المدن الكبرى، يعيش سكان هذا الحي ظروفاً بدائية تفتقر لأدنى مقومات الحياة الكريمة، وكأن الزمن قد توقف بهم عند عقود مضت. هذا التباين الصارخ بين الواقع المعيش والتوقعات من الحياة الحديثة يثير تساؤلات جوهرية حول العدالة التنموية والتخطيط الحضري. حي أرض المنزلي هو أحد الأحياء الفوضوية العديدة التي نشأت وتوسعت بشكل لافت بعد 14 يناير 2011، ليعكس بذلك تحدياً هيكلياً في كيفية التعامل مع التوسع العمراني غير المخطط له.


حي أرض المنزلي بمعتمدية المرناقية: صرخة في الظلام والعطش
حي أرض المنزلي بمعتمدية المرناقية: صرخة في الظلام والعطش



تطرح هذه الظروف مجموعة من الأسئلة الملحة التي تستدعي التأمل والتحرك: كيف يعيش أهالي حي بأكمله دون أبسط مقومات الحياة الكريمة في القرن الحادي والعشرين؟ ما الثمن الذي يدفعه الأطفال في سبيل التعليم والصحة في ظل هذه الظروف البدائية؟ هل يعلم المسؤولون حقًا حجم المعاناة اليومية التي يواجهها سكان حي أرض المنزلي بالمرناقية؟ وإلى متى ستظل هذه الأحياء "الفوضوية" خارج دائرة الاهتمام والتخطيط الحضري؟ إن قرب هذه الأحياء من المناطق المخدومة يبرز تناقضاً عميقاً؛ فالمسافة الجغرافية القصيرة بينها وبين المرافق الحضرية المتوفرة في مناطق أخرى من الولاية  لا تزيد إلا من حدة الشعور بالتهميش والإهمال، وتلقي الضوء على إشكالية التوزيع غير المتكافئ للموارد والخدمات ضمن نفس المنطقة الجغرافية.


معاناة يومية: غياب الماء والكهرباء


تتمحور المعاناة اليومية لسكان حي أرض المنزلي حول غياب أبسط الخدمات الأساسية: الماء الصالح للشرب والكهرباء. هذه الخدمات، التي تُعد حقوقاً أساسية في المجتمعات الحديثة، لا تزال حلماً بعيد المنال لسكان هذا الحي. فالمنازل هناك غير مرتبطة بشبكتي الماء والكهرباء، مما يضع السكان في مواجهة تحديات جمة يومياً.


يُضطر السكان إلى نقل الماء يدوياً باستخدام أوعية بلاستيكية، وهي ممارسة لا تستنزف الوقت والجهد فحسب، بل تشكل أيضاً تهديداً مباشراً لصحتهم وصحة أطفالهم، نظراً لعدم ضمان مصدر الماء أو نظافة الأوعية. هذا العبء اليومي يؤثر بشكل كبير على جودة حياتهم ويحد من قدرتهم على التركيز على جوانب أخرى من التنمية. أما غياب الكهرباء، فيلقي بظلاله القاتمة على كافة جوانب الحياة. فالأطفال، على وجه الخصوص، يواجهون ظروفاً قاسية عند مراجعة دروسهم وأداء واجباتهم المدرسية، حيث يعتمدون على ضوء الشموع أو "القازة" (فانوس صغير كان يستخدم للإنارة قبل عقود). هذا الوضع لا يعيق تحصيلهم العلمي فحسب، بل يحد من فرصهم المستقبلية ويساهم في استمرار دورة الحرمان. وقد لخص أحد سكان حي رمانة، وهو حي مشابه، معاناتهم بقوله إنهم "ذاقوا الويلات طوال السنوات الخمس الأخيرة" ، مما يؤكد طول أمد هذه المعاناة وتأثيرها العميق.


لا يقتصر غياب البنية التحتية على المنازل فحسب، بل يمتد ليشمل الشوارع والأزقة في الحي، التي تفتقر إلى التعبيد والإنارة، لتغرق في الظلام والأوحال. هذا النقص الشامل في الخدمات الأساسية يخلق بيئة غير صحية وغير آمنة، ويزيد من عزلة الحي. في سياق أوسع، تشهد تونس الكبرى وولاية منوبة بشكل عام اضطرابات متكررة في توزيع الماء والكهرباء، حتى في المناطق المخدومة. على سبيل المثال، تسبب حريق مفاجئ في محول كهربائي في انقطاع إمدادات الماء الصالح للشرب عن مناطق واسعة في تونس الكبرى. هذا يشير إلى هشاشة الشبكة الوطنية للخدمات، مما يعني أن حتى لو تم توصيل الخدمات إلى حي أرض المنزلي، فإن استقرارها قد يكون مهدداً بسبب نقاط الضعف الكامنة في البنية التحتية العامة للبلاد.


إن عدم توفر الماء الصالح للشرب والكهرباء لا يمثل مجرد إزعاج يومي، بل هو عائق مباشر أمام التنمية البشرية. فالمشاكل الصحية الناتجة عن المياه غير الآمنة، والتأثير السلبي على تعليم الأطفال، يؤديان إلى تدهور رأس المال البشري في المجتمع. هذا الوضع لا يؤثر فقط على رفاهية الأفراد، بل يعيق قدرتهم على المساهمة بفعالية في الاقتصاد والمجتمع، مما يديم حلقة الفقر والتهميش.


أحياء فوضوية وبنية تحتية متهالكة


لا يُعد حي أرض المنزلي حالة فردية معزولة، بل هو جزء من ظاهرة أوسع تتمثل في انتشار "الأحياء الفوضوية" التي تزايدت وتوسعت بشكل كبير في ولاية منوبة منذ عام 2011. هذه الأحياء، التي بلغ عددها 40 حياً سكنياً في المناطق البلدية والريفية بالولاية، تعكس فشلاً هيكلياً في التخطيط العمراني وتطبيق السياسات الإسكانية. إن نشأة هذه التجمعات السكنية غير المخطط لها منذ البداية يعني أنها غالباً ما تفتقر إلى أبسط الخدمات البلدية والبنية التحتية اللازمة، مما يجعل توفيرها لاحقاً أمراً معقداً للغاية.


يتصل هذا الواقع المتردي للأحياء الفوضوية بأزمة أوسع تعاني منها البنية التحتية التونسية بشكل عام. فقد عانت تونس لسنوات من سوء وهشاشة البنى التحتية، بما في ذلك انسداد قنوات تصريف المياه. ومع كل هطول للأمطار الغزيرة، تتكشف هذه الهشاشة مجدداً، مما يؤدي إلى فيضانات واسعة النطاق وتعطيل للحياة في العديد من المدن، حتى في المناطق الحضرية القائمة. وتُظهر التقارير فشل مشاريع تهيئة الأودية وبرامج مواجهة الكوارث، مما يساهم في تفاقم حالة التدهور العام للبنية التحتية.


يزيد الفساد من تعقيد أزمة البنية التحتية، ويؤثر بشكل مباشر على جودة الخدمات المتاحة. فقد بلغ حجم الفساد في الصفقات العمومية ما يقارب 2000 مليار دينار تونسي، مع وجود 140 ملف فساد يتعلق بصفقات بنية تحتية تعالجها هيئة مكافحة الفساد. وتتضمن هذه الملفات ادعاءات خطيرة حول استخدام حديد مهرب في بعض مشاريع البناء ، مما يشير إلى غياب الرقابة والجودة والمساءلة. إن هذه الممارسات لا تهدر الأموال العامة فحسب، بل تؤدي إلى إنجاز مشاريع دون المستوى المطلوب، مما يساهم بشكل مباشر في تردي الخدمات في مناطق مثل أرض المنزلي. وتزداد المشكلة تعقيداً عندما يواجه المبلغون عن الفساد صعوبات، حيث تم إيقاف عديد المبلغين عن ملفات فساد. مثل هذه الحوادث تعزز بيئة لا تشجع على الشفافية وتعيق جهود الإصلاح الحقيقية.


إن الانتشار السريع للأحياء الفوضوية ليس مجرد ظاهرة عشوائية، بل هو نتيجة مباشرة لفشل شامل في التخطيط العمراني الوطني والسياسات الإسكانية وتطبيق القوانين. فعندما تكون خيارات السكن الرسمية غير كافية أو غير متاحة أو باهظة الثمن، يلجأ السكان إلى التجمعات العشوائية، مما يخلق حلقة مفرغة. هذا النقص في التخطيط الأولي والتنظيم يجعل من الصعب للغاية توفير الخدمات بأثر رجعي، مما يحبس السكان في حالة من الحرمان. وبالتالي، فإن معالجة مشاكل حي أرض المنزلي تتطلب ليس فقط تدخلاً محلياً، بل إعادة تقييم شاملة وإصلاحاً لاستراتيجيات التنمية العمرانية والإسكان على المستوى الوطني لمنع النمو العشوائي المستقبلي ودمج الأحياء القائمة.


كما أن الفساد المستشري في صفقات البنية التحتية يمثل حاجزاً أساسياً أمام التنمية وتوفير الخدمات. فالموارد المخصصة لتحسين الظروف في أحياء مثل أرض المنزلي قد يتم تحويلها أو إدارتها بشكل سيئ، مما يؤدي إلى مشاريع رديئة أو غير مكتملة. إن هذه الظاهرة، المدعومة بغياب المساءلة وتخويف المبلغين، تعمق المشاكل القائمة وتجعل الحلول المستدامة بعيدة المنال دون إصلاحات مؤسسية أوسع ومكافحة حقيقية للفساد على جميع المستويات.


متاهة الإجراءات: بين الأراضي الفلاحية والاحتيال


تُعد العقبات القانونية والإدارية حاجزاً رئيسياً أمام توفير الخدمات الأساسية وتسوية وضعية الأحياء الفوضوية مثل أرض المنزلي. فجزء كبير من هذه المنازل شُيد على أراضٍ فلاحية، مما يستلزم إجراءات معقدة وطويلة لتغيير صبغة هذه الأراضي من زراعية إلى سكنية. هذه المتاهة البيروقراطية تؤدي إلى سنوات من الانتظار وعدم اليقين القانوني لسكان هذه الأحياء.


إلى جانب تعقيدات تغيير صبغة الأراضي، يواجه السكان مشكلة الاحتيال العقاري. فقد وقع العديد منهم ضحية لمحتالين قاموا ببيع أراضٍ دولية أو مناطق خضراء تابعة للبلديات في شكل مقاسم سكنية وبأسعار زهيدة. وعلى الرغم من محاكمة بعض هؤلاء المحتالين، فإن هذه الظاهرة تسلط الضوء على مشكلة أعمق تتعلق بإدارة الأراضي واستغلال الفئات الضعيفة.


على الرغم من وضوح هذه المشاكل، فإن الأوساط الإدارية والقضائية "ما زالت غير قادرة على الحسم في هذه الأوضاع الشائكة وتحديد مصير السكان وتسوية وضعية تلك الأحياء". هذا الشلل الإداري والقضائي يترك السكان في حالة من عدم اليقين الدائم، ويمنعهم من الحصول على الخدمات الأساسية التي تُعد حقاً من حقوقهم. إن هذه الحالة من "الجمود القانوني" ليست مجرد تفصيل إجرائي، بل هي سبب هيكلي مباشر للحرمان المستمر، حيث لا تستطيع شركات المرافق والبلديات توصيل الخدمات بشكل قانوني إلى ممتلكات وضعها القانوني غامض أو غير مصرح به. إن معالجة وضعية الأراضي هي شرط أساسي لأي تحسن ملموس في الخدمات، لكن الأنظمة الإدارية والقضائية الحالية تفشل بشكل واضح في توفير حلول فعالة وفي الوقت المناسب.


يؤثر هذا التعقيد القانوني على مشاريع تنموية أخرى أيضاً. فمثلاً، تواجه برامج إنشاء ملاعب الأحياء صعوبات مماثلة بسبب طبيعة الأراضي الفلاحية ، مما يدل على أن هذه العقبة البيروقراطية لا تقتصر على السكن فقط، بل تمتد لتشمل مبادرات تنمية المجتمع الأوسع. إن هذه المشكلة الهيكلية تبرز كيف أن غياب خيارات الإسكان القانونية والميسورة التكلفة، بالإضافة إلى ضعف حوكمة الأراضي والحماية القانونية غير الكافية، يخلق فرصاً للاستغلال، مما يزيد من تهميش الفئات الضعيفة التي تبحث عن مأوى.


صوت الأهالي: شكاوى بلا صدى؟


يعيش سكان حي أرض المنزلي حالة من الإحباط العميق نتيجة لسنوات من الشكاوى والعرائض التي "باءت بالفشل وعجزت عن تغيير واقع لا تتوفر فيه أدنى مقومات الحياة الكريمة". لقد "ملوا تفاصيل الحياة البدائية التي يعيشونها" ، مما يعكس شعوراً باليأس من عدم استجابة السلطات لمطالبهم الأساسية.


في المقابل، تؤكد التصريحات الرسمية على التزام الحكومة بمبدأ القرب من المواطن والاستجابة لمطالبه. فقد أوضح وزير الداخلية أن التعليمات الصادرة للمعتمدين والعمد تشدد على "ضرورة تكريس مبدأ القرب من المواطن باعتباره واجباً لا خياراً" ، وذلك من خلال اللقاءات المباشرة وممثلي المواطنين في البرلمان، بهدف تعزيز الثقة بين المواطن والإدارة ومعالجة الإشكاليات المطروحة. كما أشار إلى اعتماد "مقاربة أمنية واجتماعية خاصة في المناطق الشعبية، تهدف إلى التوعية وتقديم التوجيهات اللازمة".


إلا أن هناك فجوة واضحة بين هذه التصريحات والواقع المعيش لسكان أرض المنزلي. فبينما يوجد إطار قانوني يسمح للسلطة المركزية بالتدخل في حال عدم استجابة الجماعات المحلية، وعرض الإجراءات على هيئة محكمة المحاسبات لاتخاذ التدابير اللازمة ، فإن فعالية هذا الإطار تبدو محدودة في حالات مثل حي أرض المنزلي، حيث تستمر المشاكل لسنوات رغم الشكاوى المتكررة. إن هذا التباين الصارخ بين السياسات المعلنة والتطبيق الفعلي يشير إلى خلل كبير في سلسلة التنفيذ، أو جمود بيروقراطي، أو نقص في الإرادة السياسية لمعالجة قضايا المجتمعات المهمشة.


إن عدم الاستجابة المستمرة لشكاوى المواطنين وطلباتهم للحصول على الخدمات الأساسية، على الرغم من الخطاب الرسمي حول "القرب" و"بناء الثقة"، يؤدي حتماً إلى إحباط عميق وتآكل الثقة في المؤسسات العامة والحكومة. هذا التآكل طويل الأمد للثقة يمكن أن يولد اللامبالاة أو عدم المشاركة، أو على العكس، يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية، مما يقوض في النهاية التماسك الاجتماعي وشرعية الحكم. إن شعور السكان بأنهم "منسيون" أو "على الهامش" هو نتيجة مباشرة وخطيرة لهذه الفجوة المستمرة بين السياسة والممارسة.


خاتمة: مستقبل أرض المنزلي: هل من أمل في التغيير؟


تُظهر حالة حي أرض المنزلي بالمرناقية صورة معقدة ومتعددة الأوجه للتحديات التي تواجه المجتمعات المهمشة في تونس. فمن النقص المؤلم في الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء، إلى الوضع القانوني الهش للمنازل المقامة على أراضٍ فلاحية أو نتيجة لعمليات احتيال، وصولاً إلى الفساد المزعوم في مشاريع البنية التحتية، وواقع الشكاوى التي لا تجد آذاناً صاغية؛ تتضافر هذه العوامل لتخلق معاناة إنسانية عميقة، تدفع ثمنها الأجيال الجديدة، وتؤثر على صحتهم وتعليمهم وآفاقهم المستقبلية.


إن معالجة مشاكل حي أرض المنزلي تتجاوز مجرد توفير الخدمات، بل تتطلب مقاربة شاملة ومتكاملة. فالمشاكل المتشابكة في هذا الحي – من طبيعة المستوطنات غير الرسمية، إلى قضايا الأراضي المعقدة، والنقص الأساسي في الخدمات، والفساد المنهجي المستشري – تتطلب استجابة منسقة ومتعددة القطاعات. لا يمكن أن يكون الحل مجرد توفير الماء دون معالجة الوضع القانوني للأراضي أو مكافحة الفساد، لأن الحلول الجزئية ستكون غير فعالة وغير مستدامة.


تطرح هذه الأوضاع أسئلة جوهرية حول مستقبل هذه الأحياء ودور الدولة والمجتمع في ضمان حياة كريمة لمواطنيها. ما هي الخطوات الملموسة والطارئة التي يجب اتخاذها لإنهاء هذه المعاناة الإنسانية في حي أرض المنزلي؟ هل ستتحرك السلطات المحلية والمركزية بجدية لتسوية أوضاع هذه الأحياء الفوضوية، وتوفير البنية التحتية الأساسية، ومحاسبة المتسببين في هذا الإهمال؟ كيف يمكن للمجتمع المدني والإعلام أن يضغطا بفعالية لضمان حقوق سكان هذه الأحياء في حياة كريمة وعادلة؟ وهل يمكن لتونس أن تدعي التقدم والتنمية والازدهار بينما يعيش جزء كبير من أبنائها في ظروف بدائية على مرمى حجر من العاصمة، وكأنهم يعيشون في زمن آخر؟


إن محنة حي أرض المنزلي ليست مجرد قضية مجتمعية محلية؛ إنها بمثابة اختبار حاسم لالتزام تونس الأوسع بالتنمية العادلة والعدالة الاجتماعية وسيادة القانون في حقبة ما بعد الثورة. فإذا لم يتم ضمان حقوق الإنسان الأساسية والكرامة والوصول إلى الخدمات الضرورية لمجتمعات مثل هذه، خاصة وأنها قريبة جداً من العاصمة، فإن ذلك يثير تساؤلات جوهرية حول التقدم الذي أحرزته الأمة وقدرتها على بناء مجتمع شامل. إن كرامة ومستقبل مواطني حي أرض المنزلي مرتبطان ارتباطاً وثيقاً بتقدم الأمة وقيمها.

تعليقات

التنقل السريع